ذهبت ذات يوم إلى المسجد لصلاة العصر. صليت خلف الإمام، وعندما انتهت الصلاة ذهبت إلى زاوية المسجد لأردد أذكار المساء. وضعت هاتفي أمامي وبدأت القراءة منه. وقعت عيني على طفل في العاشرة من عمره يدخل من باب المسجد، ينظر يميناً ويساراً، ثم… جاءني وقال بصوت مرتجف: هل جاء الشيخ – أي الشيخ = الشيخ؟ الشيخ الذي يحفظ الأطفال. لم أكن أعلم أن هناك مدرسًا هنا، فهمست له وأنا أبتسم لأزيل الخوف من وجهه: لا، لم يأتي بعد. اجلس بجانبي. جلس الطفل وفتح مصحفه وأخذه. كان يقلب صفحاته، وكنت على وشك أن أخبره أي سورة يحفظ يا فتى، لكن ذلك قطع صوته الذي كان يرتجف من الخوف وهو يقول: يا عم، هل يمكنك أن تقرأ علي مرة أو أكثر حتى أتمكن من القراءة؟ أستطيع أن أحفظ السورة جيدا؟ كان والدي يائساً من قلة تركيزي وضعف حيلتي… وهو يتذمر دائماً. ومنذ ذلك الحين أصبحت أخجل أن أطلب منه أن يحفظ لي القرآن، وعندما أذهب إلى شيخي وأخطئ في تلاوتي يغضب مني… وأنا لا أجيد ذلك. القراءة جيدة، لذلك بعض الكلمات صعبة بالنسبة لي. فابتسمت للطفل وأخذت منه القرآن وهمست له: اقترب يا حبيب عمك. فجعلت أقرأ وهو يقرأ خلفي. لمدة ربع ساعة طلبت منه أن يستمع إليها بمفرده، لكنه لم يستطع. تذكرت شيخي عندما قال لي يوما: إذا وجدت صعوبة في الحفظ، فافهم الآيات أولا ثم حاول الحفظ مرة أخرى. حفظ الآيات مثل إغلاق باب كبير يفصل بينك وبين الجنة. حاول فتح هذا القفل بأي مفتاح. على قدر استطاعتك.. وسيفتح لك الباب. نظرت إلى الطفل مرة أخرى وهو يضغط بإصبعه من الخجل. ابتسمت وهمست له: انسى الحفظ يا فتى.. هل تعرف ماذا تعني هذه الآيات وماذا يقصد الله بها؟ وبدأت أشرح الأبيات للصبي حتى انتهيت من الشرح. كررت السورة مرتين وهو يرددها بعدي. ثم طلبت منه أن يقول ذلك بمفرده. قال بعض الأبيات، فلما صعب عليه أن يقول آية أو لم يتذكرها، ابتسم وقال لي: هل أخبرك بقصتها؟ وبعد عدة محاولات من الطفل لحفظ السورة حفظها كما حفظ سورة الإخلاص. جاء الشيخ وجاء الأطفال، فاستأذنني الطفل في الذهاب إليه، فقلت له: يا غلام، هل أخبرك بشيء يجب أن تتذكره!؟ فابتسم وقال لي: نعم. فأخذت بيد الصبي وقبلته ثم قلت: سيأتي يوم يقال لك فيه: فلان هيا. فتذهب فتسمع ضجيجاً حفظ القرآن. ثم ربت على كتفه وهمست له بكلمات تمنيت أن يقولها لي أحد منذ صغري. أنت الآن تستعد وتستعد للتلاوة أمام الله. فلا تمل، ولا تتعب، ولا تيأس، ولا تشتكي من ضعف حيلتك. فإن كل عالم أغفل القرآن فهو جاهل. ستكبر وتكون حاملاً لكتاب الله، وتميز في الدنيا عندما تكون إماماً في الناس. يرتعش صوتك خشوعاً أثناء تلاوتك وستجد نفسك في الآخرة متفوقاً ومكرماً أمام المسافرين الكرام والصالحين. أكرم الله أهل القرآن، فإن القرآن كلامه، وما أحب الله أحداً كما أحب أهل القرآن.. والله لا يعذب الله بالنار أحداً. لسان يتلو القرآن، ولا قلب يفهمه، ولا أذن تسمعه، ولا عين تنظر إلى آياته وتستطلع. لك زهرة شبابك التي نشأت تحت آيات الله. فقبلت رأسه ثم قلت له: الآن اذهب إلى شيخك وقرأ كأنك تقرأ في ظل عرش الرحمن، والله يسمع لك. أنا واثق من أنك تستطيع ذلك. ذهب الطفل إلى شيخه، وكنت أراه كل يوم وأبقيه في المسجد حتى يأتي شيخه. وبعد شهرين ودعته لأنني انتقلت إلى سكن آخر ولم أره منذ ذلك اليوم. وعلمت فيما بعد أن شيخه انتقل أيضًا للتدريس في مسجد آخر. وبعد سبع سنوات تركت العمل وركبت السيارة، وتوقف السائق أمام المسجد ليصلي المغرب. دخلت المسجد وذهبت للصلاة حتى رأيت شابا وجهه كقطعة القمر يقول (سووا صفوفكم). ( فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة ) ملامح الشاب أعرفها جيداً ولكن لا أذكر أين رأيته .. كان صوته كصوت طائر الكروان ، صوت يتنفس في صدر يعقوب ليمنحه الأمل، ويبث بشرى في قلب أم موسى بعودة طفلها.. صوت يبشر زكريا بعودة يحيى. كنا خارج الصلاة. فطلبت منه أن يكثر من التلاوة حتى أسمعه. وكانت تلاوته بمثابة الدواء لقلبي. فاكتفيت أن أذكر اسمه في سجودي وقلت: اللهم زده. وانتهت الصلاة وجلست أردد الأذكار بعد الصلاة حتى رأيت الشاب يجلس أمامي ويقبل رأسي ويقول: “أشهد لك يوم القيامة أمام الله”. أنت كنت السبب فيما أنا عليه الآن فأردت أن أقول له من أنت يا فتى!؟ وانقطع ذلك صوته الذي كان يبتسم بسعادة غامرة وهو يقول: “عمي، هل تستطيع أن تقرأ لي مرة أو أكثر حتى أحفظ السورة جيداً؟” يئس والدي من قلة تركيزي وضعف حيلتي، فتبسم وعيناه تدمع. ثم قال: هل تذكرني الآن؟ ثم نهض واحتضنني.. وقال: ختمت القرآن وأخذت الإجازة والآن أنا الحافظ. ألف مبروك لك عمي تاج الكرامة. لقد عاملتني بالحب واحتضنت قلبي بلطف قلبك، وجعلت القرآن أحب الأشياء إليّ دون أن تشعر. كنت آتيك ضعيفا فأصلحت ضعف حيلتي. فهنيئاً لك في الجنة أجر ما حفظت وأجر من حفظ يا عمي. أشكركم على ثقتكم بي عندما اتفق الجميع على أنني لا أستطيع ذلك.”)) قبل الشاب رأسي وذهب إلى الأطفال ليحفظهم. |موقع قفشات
تعليقان
❤❤❤❤❤
❤❤ لا اله الا الله ❤❤